من سنن الله تعالى في الدعوات الابتلاء قبل التمكين، وهذه من سنن الله تعالى الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)) (الفتح).
ويوسف- عليه السلام- واحد من هؤلاء الدعاة السابقين، تعرَّض لفتنةٍ عاصفةٍ في أمر دينه؛ حيث أغرته امرأة العزيز بما تملك من زينة وجمال (وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)) (يوسف).
لقد حفظه الله تعالى من الوقوع في الحرام والفاحشة، رغم أنه شاب في عنفوان الشباب، والغريزة الجنسية عمياء لا ترى، صماء لا تسمع، بكماء لا تتكلم، تلح على صاحبها أن يجد مصرفًا لها، ورغم أنه بعيد عن أعين البشر، إلا أنه اعتصم بالله فعصمه (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) (يوسف:32)، وسبب العصمة (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (يوسف) فمن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة.
لقد اختار يوسف- عليه السلام- فتنة الدنيا على فتنة الدين، فقبل أن يدخل السجن مظلومًا على أن يخسر جزءًا من دينه بوقوعه في الحرام والفاحشة وفي الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
لقد مرَّ يوسف عليه السلام بالابتلاء الشديد ونجح فيه فكانت الثمرة التمكين في الأرض، وقد سُئل الإمام الشافعي- رضي الله عنه-: أيمكّن للرجل أم يُبتلى؟ قال: لا يُمكَّن للرجل حتى يُبتلى.
ولقد كان الابتلاء شديدًا، فدخل السجن مظلومًا بتهمة لم يرتكبها، وقبل ذلك بنفسٍ راضية مسلمة، وأوكل أمره إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يقع في كون الله إلا ما أراده الله عزَّ وجلَّ: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)) (يوسف).
يوسف الداعية السجين:
بالرغم من أن سجن يوسف- عليه السلام- كان ظلمًا وعدوانًا، لكن لم يمنعه ذلك من مواصلة طريق الدعوة، وتقديم النصيحة، وهو في السجن (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ...) (يوسف: من الآية 36).
لقد توسما فيه الصلاح والتقى، بسبب أخلاقه العالية فقالا: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (36)) (يوسف)، فالداعية له سمته الدائم من العقيدة الصحيحة، والعبادة السليمة، وحسن الخلق، ويظهر ذلك عليه في كل وقتٍ وحين، حتى في الأوقات الحالكة من السجن، وما فيه من ضيق وصعوبات.
لقد قدم لهم يوسف- عليه السلام- الدليل المادي على صدقه قبل تأويل الرؤيا؛ حيث كان ينبئهم بنوع الطعام قبل أن يأتي، وهذا إخبار بالغيب لهم، كما أنه يرفع يوسف عندهم درجة من الصلاح إلى النبوة؛ حيث لا يعلم الغيب إلا الله أو من أطلقه الله عليه من الرسل والأنبياء: (إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)) (الجن).
لقد ظهر تواضع يوسف- عليه السلام- مع أقرانه في السجن، حينما نسب هذا العلم، وتلك المعرفة إلى صاحبها الحقيقي، وهو الله سبحانه وتعالى (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: من الآية 37)، فهي دعوة لهم إلى الإيمان بالله وتوحيده، فهو القادر على كل شيء، وهو العالم بكل شيء.
ومن مظاهر التوحيد التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم، الولاء والبراء ومفارقة ما عليه القوم من شرك ووثنية، فقد أعلن ذلك يوسف صراحةً وهو يُعرِّفهم بالله فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)) (يوسف).
كما أنه متبع لآبائه السابقين من الأنبياء والمرسلين فليس بدعًا في الرسالة، ولا مبتدعًا في الدين، وإنما هو متبع كل الاتباع (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (يوسف: من الآية 38).
ثم ينسب يوسف- عليه السلام- النعمة إلى الله وحده فيقول: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)) (يوسف).
ثم يخاطب يوسف- عليه السلام- عقل أصدقائه في السجن؛ حيث وضَّح لهم أيهما أفضل؛ آلهة متعددة متفرقة باطلة، أم إله واحد حق؟، (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)) (يوسف)، وإذا كان الله هو الإله الحق فإن ما يدعون من دونه الباطل، آلهة صنعوها بأيديهم، وسموها من عندهم، لا تملك لنفسها النفع والضر، فكيف مع غيرها؟.
ثم يقدم يوسف- عليه السلام- لهم أبرز قضية في توحيد الله، وهي قضية الحكم، فيجب أن يكون لله وحده، لا لغيره من الآلهة الباطلة أو المخلوقين من البشر، ومن ثم فتجب له العبادة وحده.
يوسف وزير التخطيط والزراعة:
وتبدأ قصة يوسف- عليه السلام- كوزير للتخطيط والزراعة، في تأويله لرؤيا الملك، فهو متخصص في تعبير الرؤيا بتأييد من الله- سبحانه وتعالى- ويعيش مظلومًا في سجن، ويستفتى من خصومه في تخصصه، ومع ذلك يقدم لهم التعبير الصحيح والنصيحة الصادقة، دون مقابل مادي أو معنوي.
لقد وضع يوسف خطة خمس عشرية لإنقاذ البلاد من مجاعة، كانت ستأكل الأخضر واليابس، إذا لم يكن لديهم الخطة الصحيحة للخروج من الأزمة، قال: (قال تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)) (يوسف).
فالأكل على قدر الحاجة فقط، والزيادة يُخزَّن لفترة الجدب والجفاف والأزمة، (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)) (يوسف).
ففي وقت المجاعة والشدة تعتمد الأمة على المخزون الإستراتيجي، فإذا لم يكن لديها ما يكفيها فماذا تصنع في هذه الظروف الصعبة؟ بلا شك أنها سوف تضطر إلى أن تمد يدها إلى غيرها بالدين، والدين هم بالليل ومذلة بالنهار.
وبعد الشدة يأتي الفرج، وبعد الظلام يأتي نور الفجر الصادق، ومن ثَمَّ يأتي العام الخامس عشر الذي ينزل فيه الماء وتخضر فيه الأرض، وتثمر فيه الزروع، وتجنى فيه الثمار (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)) (يوسف).
لقد عرض على يوسف- عليه السلام- أن يذهب لمقابلة الملك فرفض الخروج، حتى تثبت براءته بالدليل والبرهان، وفتح ملف القضية من جديد، فظهرت براءة يوسف ساطعة كالشمس، مضيئة كالقمر، واضحة كفلق الصبح، واعترفت امرأة العزيز بالحقيقة كاملةً، التي ظهر فيها التدبير الخفي من نفسها الأمارة، وشهادة النسوة اللاتي كنَّ معها، وخرج يوسف- عليه السلام- من السجن بريئًا مكرمًا إلى قصر الملك (قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ) (يوسف).
يوسف من السجن إلى الوزارة، ولا شك أن الأصل في الإنسان ألا يزكي نفسه ولا يشهد لها، ولا يطلب الولاية لنفسه أيضًا، لكن إذا غابت الكفايات فيجب أن يكون في مقدمة الصفوف، كما أنه نبي مؤيد الوحي فلا يخشى عليه من العجب والكبر، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55)) (يوسف)، فالأمانة تُقدَّم على التخصص في مجال القيادة والوزارة؛ وذلك لأن خزائن الأرض تحت يديه، هو الذي يوزعها دون رقيب أو حسيب من البشر، فلا بد أن يكون يكون أمينًا، كما أن خبرته العلمية هي التي أهلته لهذا المنصب الكبير، من أجل ذلك قدَّم الأمانة على العلم في الآية السابقة (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
كما نلمح في الآية أنه قال: (خَزَائِنِ الأَرْضِ) أي أن نتاج أرض مصر يكفي لأهل الأرض كلها، إذا وجدت القيادة الراشدة التي تُوظِّف الإمكانات، وتُفجِّر الطاقات، وتصنع المعجزات.
ويختم هذا المشهد بتمكين الله له في الأرض، فلا يقع في كون الله إلا ما أراده الله تعالى، وهذا توفيقٌ من الله تعالى له أولاً وأخيرًا، ودور يوسفهو الأخذ بالأسباب، وإتقان العمل، والأجر والمثوبة من الله تعالى وحده (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)) (يوسف).
نسأل الله أن يجعلنا من الذين يعملون فيخلصون.
------------
بقلم دكتور أحمد شاهين
* أستاذ الدعوة في جامعة الأزهر، وجامعة طيبة بالمدينة المنورة.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire