منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، و بعد أن استمع الحبيب - صلى الله عليه وسلم - إلى حديث عائشة -رضي الله عنها- عن نسوة اجتمعن، وتحدثت كل واحدة منهن عن زوجها، وكان من بينهن من تُدعى "أم زرع"، والتي أثنت كثيرًا على زوجها، وعلى الرغم من طول الحديث، وثقل المسؤوليات الملقاة على عاتـق الحبيب - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أنه أعطاها من وقته، وفي نهايته قال لها: ألم أكن لك خير من أبي زرع لأم زرع؟
وفي ليلة شاتية من ليالي هذا الزمان ذهبت ببردها آهات دفينة وزفرات حارة انبعثت من صدور نسوة جمعهن حديث أجبر قلمي على تسطير مكنونات نفوسهن....
تساءلت والحيرة بادية على نبرات صوتها: كان في الماضي وفي بداية زواجنا يستوعب أخطائي، ويرشدني بكل الحب والحنان، ويوصيني دومًا بالهدوء والصبر حيال الأولاد وكل من أتعامل معهم، ومرت الأعوام وكبر الأولاد، وأصبحوا على مشارف الجامعة، وتوفر لي من الوقت ما أتاح لي كثرة الاطلاع والقراءة ومتابعة الأخبار، في الوقت الذي أصبح فيه مكتفيًا بما عنده من معلومات قديمة، ورغمًا عنه ولظروف عمله لا يستطيع أن يطور نفسه؛ فإذا دار بيننا حوار أو نقاش حاولت فيه إقناعه بفكرة جديدة، أو رأي آخر أجده ضيق الصدر غير صبور على الحوار، لا يقبل آراءً غير آرائه؛ بل ربما تطور الأمر لأكثر من ذلك وبخاصة إذا كان النقاش حول ما يخص البيت والأولاد، فإذا به يتهمني بمحاولة الانفراد بالقرار داخل الأسرة، و السيطرة عليها...
استشعر توقفًا في النمو الفكري بدأ في الزحف على عقول الرجال، ربما لطحنهم في لقمة العيش، أو للوسط المحيط في العمل والذي لا يشجع على الثقافة والاطلاع..
توقفت عن الحديث ولفها صمت طويل وكأنها تبحث عن الإجابة...
قطع صمتَها تنهُد الثانية؛ فقالت: أما أنا وتحت مسمى القوامة... تلك القيمة السامقة والتي شُوَّهت كثيرًا يريدني أن أتقبل تدخله في كل ما أسمع وأقرأ وأن كل ذلك لابد أن يمر من خلاله أولاً.. أبعد كل هذه السنوات؟ أين الثقة إذًا؟ ومن قال له أن ذلك يدخل في قوامته؟ إن هذا الأسلوب يحق له ممارسته مع أولاده، أما أنا وهو يعلم تمامًا أني لا أخفي عنه شيئًا فهلاّ كان أسلوبه أرق من ذلك؟ ليته حاول إقناعي بدلاً من إصدار الأوامر!!
أما الثالثة بدت وكأن الكلمات تستعصي عليها للدهشة التي أصابتها، وللذهول الذي أخذ منها كل مأخذ عندما تشاجرت معه في إحدى المرات، وهل تخلو أي حياة زوجية من مشاحنات من حين لآخر؟!، فإذا به يفاجئها بقوله: لقد قلت نفس الكلمة التي تلفظت بها منذ ستة أعوام، وأنا احتفظ بالتاريخ عندي باليوم والشهر والسنة.
انعقد لساني ولم أدر بماذا أجيبه، ولكنني عندما هدأت قليلاً تعجبت.. إن من عادة الناس أن يحتفظ الكثير منهم بكل ما يذكرهم بالأوقات والمناسبات السعيدة في هذه الحياة.. فماذا يفعل هو؟
هلاّ تبصر بحقيقة نفسه وأحصى عيوبه وأخطاءه ليحاول إصلاح نفسه بدلاً من أن يرد عليّ بقوله: انصحي نفسك، أنا أعرف نفسي جيدًا؟!
وهل يتصور أنني وبعد علمي بذلك سأكون على طبيعتي وغير متكلفة في حديثي معه؟ لقد كسر شيئًا ما بداخلي!
وتبسمت الرابعة، ولكنها كانت ابتسامة حزينة انسابت من خلالها كلماتها: نعم هو طفلي الأكبر، نعم هو صاحب الحق الأول في حبي وحناني، وله أوفر الحظ والنصيب من مشاعري... قبل أولادي وقبل الناس جميعًا، هكذا من المفترض أن أكون؛ لكنه لم يكلف نفسه مشقة السؤال يومًا: لماذا أبخل عليه بتلك المشاعر والأحاسيس... لم يفطن يومًا لهذا الحاجز النفسي الذي وضعه بإحكام واقتدار بيني وبينه بسبب كلماته الجارحة وانتقاصه مني كلما أخطأت - ومن منا لا يخطئ؟! - وهل أخطائي تبيح له تجريحي إهانتي؟ ثم يعود ويلومني أنه ما عاد يجد حتى الابتسامة، تلك التي صهرها تمامًا في أتون مفرداته اللاذعة ونقضه الملتهب...
لا.. والله.. لست جامدة المشاعر ولا بليدة العواطف. إن بداخلي الكثير من الحب والرغبة في العطاء، ولكن كيف لهذه الأحاسيس أن تنبت، وتتطاول فروعها وتزهو ثمارها، وقد خنقتها أنت بدخان غضبك المتهور ورذاذ سخريتك المتبعثر؟
أما الخامسة فكانت أكثر انفعالاً، فلم يكن وقع الكلمات عليها هينًا عندما أخبرها أن القرار فيما يخص الصغار من شأنه وحده... لم أستطع أن أتقبل ذلك منه، وعندما سألته: أين الشورى، والتي ذكرها القرآن فيما هو دون ذلك، عند فطام الطفل؟ وعندما ضربت له المثل باستشارة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة رضي الله عنها في ما يخص سياسة الدولة؛ إذا به يرد و بهدوء شديد - أحرق أعصابي- هذه (اليفط) لا أعرفها... من الممكن أن أستمع فقط.... مجرد استماع إن كان عندك شيء، ولن يزيد الأمر عن ذلك، ثم تركني.. فمن أتحدث معه سواه؟
وتسللت الضحكات الخافتة على حياء عندما تحدثت السادسة زوجي عند خروجه من بيتي أراه عريسًا يزف إلى حسناء جميلة تنتظره، فما أبهى حلته! وما أرقى عطره! وما أروع سمته وأناقته!، أما عند مكوثه معي فما...، وما....، وما.... !!!
وجاء دور السابعة؛ فقالت: أعلم أنه لم يقصر في حقي إلا قليلاً ورغمًا عنه، ولا أنكر ذلك أبدًا، ولكن لا أدري لماذا يتركني في فترات مرضي وعند ولادتي لغيره يمرضونني؟، مهما كان عطف صديقاتي علي و تفانيهم في خدمتي، إلا أنني أشد ما أكون احتياجًا إليه في هذا الوقت، و ليست حاجتي فقط في توفير الدواء ونفقات العلاج، وقوفه بجانبي وعطاؤه لي من وقته واهتمامه ألا يكون ذلك من حقي عليه؟
وتحدثت الثامنة قائلة: مثل كل الزوجات أنتظر قدومه بشوق ولهفة، و يعلم الله كم اجتهد لحسن لقائه، ولا أذكر أنني أخبرته بشيء يزعجه بمجرد دخوله البيت، واحرص على تناوله قسطًا من الراحة، وأحاول أن أتلمس مداخل لطيفة لأستشيره وأخبره بما في بيتنا من مشاكل الأولاد المعتادة، أو ما يعرض لنا عمومًا، فلا أجد إلا مفردات ثابتة غير قابلة للتجديد:
أنا ليس عندي وقت.. عندي ما يكفيني.. أنا مرهق نفسيًّا وعصبيًّا.. مشاكل البيت والأولاد يمكنك تحملها والعمل على حلَّها... المشاكل الخارجية لن يحلها غيري... ألا يوجد رحمة في هذا البيت؟! طاقتي محدودة... ارحميني...
ومع ارتفاع نبرات صوته انتبهت على إغلاق باب البيت بشدة وعنف... !!
ودق الجرس بعد فترة قليلة وأخبرني الأولاد بمجيء إحدى صديقاتي و نسيت أنني على موعد معها، استقبلتها وبي من الهمَّ ما لا يعلمه إلا الله... كانت مسترسلة في حديثها، ولكني كنت سارحة بعيدًا عنها بما أثقل رأسي من أسئلة كثيرة، أما آن لهذه الطاقة التي يدعي زوجي فناءها أن تستحدث؟ ماذا أفعل معه؟ و إذا بي أفيق على كلماتها...
والله إن زوجي يمدح كثيرًا في زوجك، تعلمين بالطبع أن عملهما سويًا جعل كل منهما يقترب من الآخر ويعرفه أكثر، ولكم أثنى زوجي على صبر زوجك وما يلاقيه من مشاكل العمل ومع إخوانه، وعلى حكمته في توجيه من حوله، وقدرته على تحكمه في أعصابه، وتميزه بالهدوء الشديد!!
ألجمتني كلماتها فلم أدر جوابًا، وعندما واجهته قائلة (خيركم خيركم لأهله)؛ قال ومن قال لك أنني منهم؟!
وسيطر الغضب على التاسعة إلى حد كبير... مع طول العشرة أصبح شحيحًا في كلمات المدح والإطراء.. متصورًا أنني ما عدت بحاجة إليها، في الوقت الذي حرص فيه -وبدون حكمة- منه على نقل كل ما يقال في حقي من ثناء حسن يتردد على ألسنة أقاربه أو أصدقائه بسبب طعام طيب مثلاً تناولوه عندي أو أي تصرف حسن صدر عنى وسمعوا به (ربما منه هو شخصيًّا!) ودون أي قصد مني، في الوقت الذي افتقرت فيه للمثل منه مما جعلني أعيش في صراع مرير مع نفسي، ولا أدري لماذا حصرنا فهمنا للحصانة في زاوية واحدة فقط، فهلاّ انتبه زوجي لحصانتي النفسية؟
أما العاشرة وعلى غير ما عرفناها وألفناها كانت غير مكترثة بهيئتها ولباسها وزينتها؛ فقد كنا نضرب بها المثل في حفاظها على رشاقتها و بهاء طلعتها داخل البيت وخارجه أيضًا... لاحظت علامات الاستفهام على وجوهنا، قالت: أعلم ما يدور في أذهانكن، و كن ما حيلتي بعد ما سمعته منه عندما دخل البيت يومًا وهو غاضب ورغمًا عني وبسبب كثرة الأعمال الملقاة على عاتقي وعلى غير عادتي لم أكن وقتها في هيئة حسنة، وكنت منهكة القوى، فلم أستطع التجاوب معه على ندرة مني، فإذا به يصدمني وبكل تهكم: أنا لا أدري لماذا لا تكونين مثل فتيات (... ) ألا تتعلمين، ألا كنت عونًا لي على العفة وغض البصر؟ حسنًا.. هنيئًا لك بسخط الله عليك ولعن الملائكة لك....
كدت أبكي من قسوة كلماته، ولا أدري والله ماذا كنت أفعل فيما مضى من زواجنا، حاولت أن أتمالك نفسي، وقلت له لقد استمعت لتعليق أحد العلماء على هذا الحديث، وأن الذي يتسبب في إغضاب صاحبه هو الذي يحمل الوزر؛ فرد بقوله (أنت تسمعين الفتاوى على مزاجك)....
خرج وتركني بين دموعي... كيف هان عليه وبعد كل هذه السنوات أن يقارن بيني و بين هؤلاء اللاتي لا يعرفن أي قيمة للزواج ولا البيت ولا تربية الأولاد؟! وهل أستطيع أنا أن أتفوه بكلمة واحدة بمثل ما شنَّف به سمعي، لماذا لم يضع نفسه مكاني؟ ماذا سيكون شعوره لو قارنته بغيره مثل ما فعل معي؟ أم يحسب الرجال أنا لا أعين لنا نبصر بها، أو آذان نسمع بها؟
وألقت الحادية عشرة سؤالاً يشبه الفوازير: من منكن تستطيع أن تخبرني ماذا تعني كلمة (الحرملك)؟
فأجابت إحدانا.. هذا مصطلح ولّى زمانه وانتهى، وكان يطلق على مكان تتجمع فيه الحريم.. أقصد النساء، ولكن في الماضي كانت تطلق عليه هذه التسمية...
قالت أمّا عندي فلا يزال المعنى يتردد على مسامعي، إذا أخطأت قال لي زوجي هذا شغل (حريم) إذا لم أضبط موعدًا لي من عدة مواعيد منضبطة... ها هي مواعيد الحريم)... حتى أصبحت هذه الكلمة تشعرني بالانتقاص والمهانة، كنت أظنها مشتقة من الحرمة... فهل يحل له همزي ولمزي بدعوى إصلاح أخطائي؟
تساءلت الأخيرة... لا أدري لماذا لا يكون صادقًا مع نفسه... هل يريدني رجلاً أم امرأة؟
كنت كلما ثقلت على مسؤولية الأولاد، أو آلمني شيء، أو ازدادت معاناتي مع أهله، أتيته والدموع في عينيّ، أخفف عن نفسي بحديثي معه، وأنتظر كفه الحانية لتمسح دموعي، وتحتوي لحظـات انفعالـي، ولكنه كثيرًا ما نصحني؛ بل وطالبني بالصبر التجلد والشدة وعدم الضعف، فأجدني مضطرة أن أكتم ذلك الفيض الغامر من مشاعري فتغيب عنى الابتسامة، ونضرة الوجه وطلاقته أيامًا، فلا أراه يتحمل ذلك، ويتساءل في دهشة يشوبها الكثير من الاستنكار:
أين ابتسامتك الرقيقة، وكلماتك العذبة؟، أين سحر الأنثى بداخلك، ودلالك ورقتك في تعاملك معي؟
ألا يرى أنه ما أفسح لها مكانًا في نفسي بعد ما أجبرني على ملء المساحة المخصصة لها بما طالبني به ؟
ألم أكن أنثى حين أتيته أشكو إليه؟
أم أنه أرادني وقتها رجلاً، والآن يريدني امرأة ؟
ولا يزال حديثهن يتدفق، تسمعه أذناي، ويجري به القلم رغمًا عني، ولكن عقلي ذهب بعيدًا، أسائل نفسي: أليس من بينهن أم زرع كالتي حكت لنا عنها السيدة عائشة، أين ذهبت؟ أتراها خشيت على نفسها (العين) فتوارت بعيدًا؟
أم أن أبا زرع هو الذي ندر وجوده في هذا الزمان؟!
فهلاّ عدت إلينا يا أبا زرع... هلاّ عدت زوجًا حنونًا هادئًا وصبورًا؟! هلاّ عدت صديقًا وحبيبًا؛ لتخرج لنا من بين حناياك وأضلعك أم زرع، وأبناء أبي زرع؟ فما أحوج أمتنا الإسلامية لهم اليوم!!
هلاّ عدت لتقول لزوجتك بكل الحنان والثقة... ألم أكن خيرًا لك من هؤلاء الذين تحدثت عنهم زوجاتهم؟
هيا يا أبا زرع... ألست صاحب القوامة والدرجة ملك لك، خذ بزمام المبادرة.. واجه نفسك.. لا تنهك قوى الوقت معك في التفسيرات والتبريرات... كن واثقًا أنك عندما تتخذ قرارك بالتغيير؛ فلن يطول بك الوقت في البحث عن أم زرع، فسرعان ما ستعود إليك وبأفضل مما كانت...
وما أعظم أجرك وثوابك حين تعود الابتسامة إلى ثغرها، وتهدأ بعذب كلماتك نفسها، وتملأ السكينة والمودة جنبات البيت، وترفرف أجنحة الحب على عش لم تجد يومًا أفضل من أم زرع لتبنياه سويًّا.
فجدد البناء...وأكمل.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire