الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان واقتفى آثارهم بإيمان إلى يوم الدين .
وبعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته ..

النقود .. هي كل ما يكون له قبول عام بين الناس كوسيط في التبادل وأداة لإبراء الذمة ولتقييم السلع ، ومخزناً للقيمة .. سواء كان من الذهب والفضة أو من غيرها ..
ولذلك ورد عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال بأن الناس لو اتفقوا على جعل نقودهم من الجلود وأصبحت لها سكّة ، لكرهت أن يتعامل بها نظرة .. بمعنى كلامه ..

الإنسان في القديم - كما تذكر كتب تاريخ الفكر الاقتصادي - كان يعمل لسد حاجاته الرئيسية والضرورية فقط ، فكان ما ينتجه هو للاستعمال الشخصي ولتحقيق الاكتفاء الذاتي فقط .. فاعتمد على الصيد لتوفير الغذاء ، وحفر الأبار لتوفير الماء ، أو العيش بالقرب من أماكن تجمع الماء والأنهار ..

ولكن مع زيادة عدد الناس وتوسع المجتمعات البشرية ، واحتكاك بعضها ببعض ، والتطور في مجالات العمران والزراعة وتربية الماشية وغير ذلك .. أصبح لدى الناس فائضاً من الانتاج .. وفي ذات الوقت أصبح لدى الناس متطلبات وحاجات ليست متوفرة إلا عند غيرهم من الأمم والجماعات ..

فهنا بدأت الحاجة لعملية البيع والشراء .. وذلك للحصول على ما يحتاجه الناس من سلع أو خدمات .. ولم يكن ذلك سهلاً مع انتفاء الوسيط في هذه العملية .. ولكن ما حصل هو أن الناس بدأوا يتبادلون السلع في عملية سمّيت بـ(المقايضة) .. فمن عنده القمح يبادل مع صاحب الزيت ، ويتبادل أهل الماشية مع بعضهم .. كمبادلة بعض الماعز بالجمل مثلاً ، وكذلك مبادلة الجلود بالزبد أو الحليب .. وغير ذلك ..

هذه العملية استعملها الإنسان قديماً .. بل ظلّ قسم منها رائجاً حتى دخول الإسلام .. ويدلّ عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر والشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل يداً بيد .. ثم قال : ( فإن اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) .. مما يعني أنهم كانوا يتبادلون هذه السلع وغيرها ..

ولكن عملية المقايضة تخللتها بعض الصعوبات ، منها :
1- عدم توافق الرغبات : فإن صاحب القمح يريد مبادلة قمحه بالزيت ، ولكن صاحب الزيت قد لا تكون له حاجة إلى القمح ، وإنما يريد حليباً ..
2- عدم الاتفاق على المقدار : فمن عنده 50 كيلو جراماً من القمح يريد مبادلتها كلها بالزيت ، قد يجد أن صاحب الزيت لا يريد هذا القدر من القمح وإنما يريد فقط 5 كيلوجرامات ..
3- عدم الاتفاق على القيمة : فقد يكون صاحب الجمل يريد مبادلته ب5 من الماعز ، بينما صاحب الماعز يرى بأن 4 من الماعز تكفي في قيمة هذا الجمل ..
4- عدم إمكانية تقسيم بعض السلع : فمن عنده 10 كيلو جرامات من القمح .. يريد بها بعض اللحم .. لن يوافق صاحب الجمل على إعطائه إياه ؛ لأنه سيحتاج إلى نحر الجمل؛ لإعطائه جزءاً منه .. فربما لم يتمكن من بيع باقي اللحم ..
أو من يكون عنده سيف أو درع .. يريد مبادلته ببعض القمح .. فإن هذا السيف غير قابل للتجزئة .. خصوصاً إذا كان قدر القمح المطلوب قليلاً ..
5- عدم وجود شيء ذا قيمة لدفعه مقابلاً للخدمات المقدمة .. فمثلاً : من احتاج إلى طبيب ليعالجه أو لشخص يبني له بيته .. فإنه عند انتهاء عمله سيطلب مقابلاً عن هذه الخدمة التي قدمها ، فما الذي ستدفعه للطبيب ؟ بعض الحليب أو الزبد ؟ وما الذي ستدفعه لمن ساعدك في البناء ؟ هل ستعطيه جزءاً من بيتك أو بعض مواد البناء التي قد يكون لا حاجة له فيها ؟

وهكذا بدء الناس يبجثون عن الحلّ لتسهيل المبادلة .. فإن صاحب القمح إذا أراد الزيت .. فلم يرغب صاحب الزيت في القمح .. فإنه يسأله عما يرغب فيه من السلع .. فإذا قال له أريد (زبداً) ذهب إلى السوق .. فبادل ما معه من القمح بالزبد .. ثم جاء بالزبد ليبادله مع الزيت ..
ومن خلال هذه المعاملة أصبح متعارفاً بين أهل السوق : أن بعض السلع لها قبول عام بين جميع المتبايعين لمميزات عديدة بها من سهولة حفظها وعدم تغير سعرها بشكل كبير وإمكان تقسيمها إلى أجزاء ونحو ذلك .. كالقمح مثلاً أو الزبد أو غير ذلك ..
فكانت أول عملية لتثبيت (عملة) أو (نقد) سلعي في السوق .. بحيث يكون له قبول عام ، ووسيط لتسهيل المبادلات ..

ثم مع كثرة تعامل الناس ، وصلوا إلى جعل الذهب والفضة هما الوسيط المناسب لعملية البيع والشراء بجانب المقايضة .. وذلك لتجاوز هذه الصعوبات المذكورة .. حيث أن الذهب والفضة لهما رونق جميل ، ويسهل تقسيمها إلى أجزاء متساوية ، وبمكن سبكها وتشكيلها بأشكال مختلفة، مع إمكانية حملها ونقلها بسهولة ..

وهكذا بدء استعمال الذهب والفضة .. وهو ما كان موجوداً عند نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم .. حيث كانوا يستعملون الدنانير من الذهب ، والدراهم من الفضة ، وكانت لها أوزان معلومة معروفة .. وكانت لها معايير معينة .. يعرف بها الخالص منها مما هو مشوب بغيره من المعادن ..
قال تعالى : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً .. الآية ).
وقال تعالى عن إخوة يوسف : ( وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ) .
وقال سبحانه عن أصحاب الكهف : ( .. قالواً ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ) .