الإنسان أفضل المخلوقين وأكرمهم عند الله.. سخّر
الله له ما في السّموات والأرض، واختاره لكي يكون خليفته في الأرض ليحمل
القيم الإلهيّة الجميلة في سلوكه وأخلاقه وتعامله مع الناس وخدمته لهم..
إنّه بإختصار "سفير الرَّحمة الإلهيّة".
ولذا كان محور بعثة الأنبياء وجهاد الأولياء السعي لتكامل هذا الإنسان علماً وحلماً والوصول بالمجتمع البشري إلى شاطئ الأمن والسلام والمودّة والوئام، لذا يقول الله تعالى عن رسوله الكريم(ص): (وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمين) (الأنبياء/ 107)، ويقول الرسول الكريم: "إنّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق" .
من هنا كان ويكون: إصلاح الإنسان والمجتمع البشري، ذاتاً: مفاهيم وقيماً، وأخلاقاً وتربية، الهدف الأساس لكل عملية الإصلاح في الإسلام، ولذلك توجّهت الآيات الكريمة في مجمل القرآن الكريم إلى خطاب الفرد بنفسه، لكي يؤمن ويتوب ويُصلح نفسه قبل الآخرين.. ومن ثمّ تتّجه إلى خطاب الجماعة المؤمنة للإصلاح، في نفسها وحالها، كي تصلح الآخرين.. ومن ثمّ تتّجه إلى مطالبة الناس جميعاً بالإصلاح لأنّ في ذلك فلاحهم ونجاتهم وبقاء النوع الإنساني واستمراره على الأرض، بدلاً من إفسادها وهلاكهم جميعاً نتيجة لسوء عمل البشر وفساد تدبيره.
يقول تعالى: (يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهتديتم...)(المائدة/ 105).
ويقول تعالى: (فمن آمَنَ وأصلحَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون) (الأنعام/ 48).
ويقول جلّ شأنه: (وإن تُصلحوا وتتقوا فإنّ الله كان غفوراً رحيما) (النِّساء/ 129).
ويقول: (إنّما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم تُرحمون) (الحُجرات/ 10).
ويقول جلّ شأنه: (ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خيرٌ لكم) (الأعراف/ 85).
ويقول: (وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) (هود/ 117).
ويقول الرسول الكريم(ص): "ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدّقته الأعمال" .
إذن، محور الإصلاح، كما يراه الإسلام، وكما يعرضه القرآن، يبدأ بالتربية وإصلاح الذات: من الإنسان، فأهله وذرِّيّته، ثمّ المجتمع، الأقرب فالأقرب، والأولى فالأولى، فلا يتناسى الإنسان المُصلح نفسه، فيكون من الذين ذمّهم الله تعالى بقوله: (يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كَبُر مَقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف/ 2-3).
ولا يغفل عن عائلته التي هو مسؤول عنها، قال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَاراً وَقُودُها النّاسُ والحِجَارَةُ...) (التحريم/ 6).
ولا ينسى وظيفته في المجتمع، كما يقول الرسول(ص): "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته" .
إنّ الإنسان يتأثّر بالمحيط الذي يعيش فيه، وتتألّف معالم شخصيّته الأولى في البيت الذي يتربّى فيه، فإذا كان الخير والصلاح يعمّه، والعدل والإحسان يسوده، والخلق والسماحة تشيع فيه.. نشأ الإنسان متعادلاً ومتوازناً وشبّ على حبّ الخير والصلاح واتّسم بحُسن الأخلاق.. وهكذا تكون أجيال متعاقبة من الصالحين، بعضهم من بعض، والأسرة هي نواة المجتمع، ومن مجموع الأسر الصالحة يكون المجتمع الصالح.
قال تعالى: (جنّاتُ عَدنٍ يدخلونها ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذُرِّيّاتهم...) (الرَّعد/ 23).
ولابدّ من ملاحظة مسألة مهمّة وهي أنّ كثيراً من الأخلاق الفاسدة في الحكم والإدارة والتعامل مع الناس تبتدئ جذورها من التربية البيتيّة، فالبيت الذي يقوم على الإستبداد والسلطة المطلقة، وتكون العلاقات فيه مبنيّة على الخوف والقهر من الأب أو الأُم.. هذا البيت نموذج مصغّر للحكومة المستبدّة التي فيها قاهر ومقهورون، وظالم ومظلومون، وحيث تُفتقد فيها الحرِّيات والرأي الآخر.. سيكون الولد الذي يخرج من هذا البيت أحد إثنين: إمّا شخص مهزوم الشخصية، منكسر الذات، يعاني الكبت والحرمان.. وإمّا آخر يبحث عن التعويض عمّا لاقاه وعمّا افتقده من خلال ممارسة نفس السلوك مع الآخرين.. مع أهله وولده وأفراد مجتمعه، وقليل مَن يكونون متعادلين راشدين.
إنّ هذا البيت لا ينسجم مع ما وصفه الله للأسرة، وبالشكل الذي يريده، فهو مُنافٍ لقوله تعالى: (ومِن آياتِهِ أن خلق لكم مِن أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون) (الرُّوم/ 21).
ولا ينسجم أيضاً مع سنّة الرسول(ص) الذي يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" .
وقوله(ص): "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يغفر لكم" .
وتتكامل حلقات التربية في البيت مع نظيراتها في المجتمع: المدرسة والجامعة، والمحيط الإجتماعي، في الشوارع ودوائر الدولة، والمجالس العامّة، وغيرها، وهذه بدورها تؤثِّر في تشكيل الشخصية الخارجية للفرد وسلوكه الإجتماعي العام، ولذلك يجب العمل على أن يكون التعامل في كل هذه المجالات قائماً على أساس إحترام الإنسان وإكرامه، كما أراد الله تعالى، الذي قال: (ولقد كَرَّمنا بني آدم وحَمَلناهم في البرِّ والبحرِ ورزقناهم من الطيِّبات وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خَلَقنا تفضيلاً) (الإسراء/ 70).
ومن ثمّ إحترام حقوقه ومساعدته للنهوض بواجباته، على أساس القانون الذي يحمي الجميع ويُحاسبهم بمعيار واحد.
وينبغي أن يكون في كل المراحل منهج تربية يُوفِّر للإنسان فرص التعبير عن رأيه مع إحترام الرأي الآخر وتنمية روح النقد البنّاء مع نيّة صالحة تهدف إلى إصلاح الأوضاع والنهوض بها، فالممارسات الحُرّة تحتاج إلى تدريب وتأهيل عليها منذ الصغر حتى ينعم بها الأفراد بصورة معتدلة بعيداً عن التطرُّف والغلو الذي ينتجه عادة الكبت أو الإنفلات غير الملتزم.
والهدف الأساسي لمنهج التربية في الإسلام يقوم على أساس الوصول بالفرد إلى الرُّشد، وهو المستوى الذي يستطيع فيه الإنسان أن يختار ما يُصلح دينه ودنياه.
والرُّشد هدف عام يسعى الإسلام لإيصال المجتمع بصورة عامّة إليه، حتى يتمّ إختياره لطريقه في الحياة، إختياراً واعياً وعاقلاً، قال تعالى: (لا إكراهَ في الدين قد تبيَّن الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ...) (البقرة/ 256).
ومن ثمّ يأتي العمل على إشاعة الأخلاق الصالحة التي تحفظ للمجتمع جماله وكماله وحلاوته وطراوته ليعيش الجميع متحابّين متوادّين، يتّقون الله في معاملاتهم ويتصالحون ويصلحون فيما بينهم، كما أمر الله بقوله: (فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (الأنفال/ 1)، وكما أوصى الرسول الكريم.. فقد روي عنه(ص) أنّه قال لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن: "يا معاذ، علِّمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة".
وبذلك نعرف أن الإصلاح التربوي هو الأساس لكل إصلاح، ومنهج الإصلاح في ذلك ينبغي أن يكون على نمطين، حددّهما القرآن نفسه وأكّدتها السيرة النبويّة.. قال تعالى: (هو الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهُم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مُبين) (الجمعة/ 2).
النمط الأوّل: التعليم، ويشمل تعليم كتاب الله وما فيه من هدى وبيان وأحكام، حتى تتّضح للإنسان معالم دينه وحدود الله المرسومة لسلوكه، فيقف عندها ولا يتعدّاها، وفي ذلك يقول الإمام علي: (أفضل الأدب أن يقف الإنسان عند حدّه ولا يتعدّى قدره).
النمط الثاني: التزكية، بما يتضمّن هذا العنوان من تدريب النفس على تجنّب الهوى وإتباع الشيطان وترفعها عمّا يحطّ من قدرها ويمسّ كرامتها، من سوء الفعال وإرتكاب المعاصي والآثام.
وفي المقابل، تحلية النفس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وبما يصلحها ويدنيها من شيم الصالحين وأخلاق الطيِّبين، من الأنبياء والرُّسُل، وعباد الله المقرّبين، مَن حكى الله سبحانه وتعالى سيرتهم وشاع في الناس علوّ درجاتهم، على الخصوص خاتم النبيِّين محمّد(ص) وأهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
قال تعالى: (أولئك الذين آتَيناهم الكتاب والحُكمَ والنبوّة فإن يكفُر بها هؤلاء فقد وَكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبِهُداهم اقتَدِه...) (الأنعام/ 89-90).
وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول اللهِ أُسوَةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخرَ وذكر الله كثيراً) (الأحزاب/ 21).
وقال تعالى: (... إنّما يُريدُ اللهُ ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهل البيتِ ويُطهِّرَكُم تَطهيراً) (الأحزاب/ 33).
وقال تعالى: (والسابقونَ الأوّلونَ من المهاجرين والأنصارِ والذين اتَّبعوهُم بإحسانٍ رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنهُ وأعَدَّ لهم جنّاتٍ تجري تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً ذلك الفوزُ العظيم) (التوبة/ 100).
والإصلاح في كل نواحي المجتمع يجب أن ينطلق من محور إصلاح الإنسان، الذي يقود الحياة ويُدير الأعمال ويُوجِّهها. وبمقدار ما يتمّ التغيير ويفلح الإصلاح في الإنسان الفرد، في ذاته ونفسه، في أفكاره وقيمه، في سلوكه ومناهج عمله.. تتم عملية التغيير في المجتمع كلّه وتتقدّم عملية الإصلاح، يقول تعالى: (إنّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتّى يغيِّروا ما بأنفسهم) (الرَّعد/ 11).
وهذا قانون إلهي وسنّة إجتماعية ثابتة اعترف بها علماء الإجتماع وتابعهم في ذلك علماء السياسة، حتى أنّهم لا يرون تقدّم المجتمع وتطوّر مفاهيمه وتغيّر واقعه في مجال الإصلاح السياسي إلاّ بالعمل على تربية الإنسان وترقية أفكاره منذ الصغر، وأن تكون مفاهيم إحترام الرأي الآخر وتقبّل التعددية والديمقراطية ممارسة ثقافية وتربوية في البيت والمدرسة، ينشأ عليها الطفل ويشبّ عليها بدلاً من الإستبداد والتسلّط وإستخدام القوّة، وغيرها من المفاهيم الفاسدة الحاكمة والسارية في المجتمعات القمعية والدكتاتورية.
والقرآن الكريم يتحدّث عن إصلاح الذرِّية.. كما ورد على شكل الدُّعاء: دعاء أبي الأنبياء (وأصلح لي في ذرِّيتي) (الأحقاف/ 15)، ولكنّه ليس مجرّد أُمنية أو دعوة عابرة، بل هو طلب من الله تعالى لتوفيقه لإصلاح ذُرِّيته: إنّها رغبة وإرادة وإستعانة بالله وإستهداء به لتربية الأولاد وتنشئتهم النشأة الصالحة ليكونوا بناة ورعاة للمجتمع الصالح.. إنّها دعوة كما تقول: (إيّاك نَعبدُ وإيّاكَ نستعين * اهدِنا الصِّراط المُستقيم * صراط الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضّالِّين) (الفاتحة/ 5-7).
إنّها دعوة عزم وتصميم وإرادة وعمل للسير على منهج ربّاني صالح، اختاره الله لعباده المقرّبين (مع الذين أنعمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رَفيقاً) (النِّساء/ 69).
وكذلك تأتي دعوة أخرى: (وأدخِلني برحمتك في عبادك الصالحين) (النمل/ 19)، فإنّها تتم وتتحقق بالعمل، لا مجرد التمنّي، لذلك يقول تعالى: (وقُل اعمَلوا فَسيَرى اللهُ عَمَلكم ورسولهُ والمؤمنونَ وستُرَدُّونَ إلى عالمِ الغَيبِ والشهادةِ فيُنَبِّئُكُم بما كنتم تعملون) (التوبة/ 105).
ويتعرّض القرآن، إستمراراً لمنهجه في إصلاح التربية، إلى موضوع التعامل مع اليتامى، والذين يلقون إهتماماً خاصاً في الإسلام لتعويضهم عمّا افتقدوه من رعاية الأب، أو الوالدين، وقد أكّد على حُسن معاملتهم ورعايتهم مادّياً ومعنوياً في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: (واعبُدُوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجارِ الجُنُب والصاحبِ بالجَنب وابنِ السبيل وما مَلَكَت أيمانُكم إنّ الله لا يُحبُّ مَن كان مُختالاً فخورا) (النِّساء/ 36).
وقوله تعالى: (فأمّا اليَتيم فلا تَقهَر * وأمّا السائل فلا تَنهَر * وأمّا بنعمة ربّك فحدِّث) (الضُّحى/ 9-11).
وإستمراراً لهذا النهج، يؤكِّد الإسلام على حُسن التعامل معهم بما يُصلح حالهم وينفعهم في مستقبلهم، فيقول تعالى: (ويسألونكَ عن اليَتَامى قُل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تُخالطوهم فإخوانُكُم واللهُ يَعلَمُ المفسِدَ مِنَ المُصلِحِ ولو شاءَ اللهُ لأعْنَتَكُم إنّ الله عزيزٌ حكيم) (البقرة/ 220).
وهو نهج عام للتعامل مع عموم الأولاد، إذ إنّ (العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب)، كما يقول الأُصوليون، فالوالد يُسمّى ربّ الأسرة، لأنّه المسؤول والمعني بتربيتها وتوجيهها ليكون الأولاد صالحين، يستطيعون شق طريقهم في الحياة والنهوض بمسؤولياتهم الفردية والإجتماعية، بما يسعدهم في الدارين، بتوفيق الله وهدايته.
وهكذا نتوصّل إلى أنّ الإصلاح في الجانب التربوي، أساس كل صلاح، به يتقوم بناء الإنسان ليسلك طريق الخير والفلاح.
*المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم
ولذا كان محور بعثة الأنبياء وجهاد الأولياء السعي لتكامل هذا الإنسان علماً وحلماً والوصول بالمجتمع البشري إلى شاطئ الأمن والسلام والمودّة والوئام، لذا يقول الله تعالى عن رسوله الكريم(ص): (وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمين) (الأنبياء/ 107)، ويقول الرسول الكريم: "إنّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق" .
من هنا كان ويكون: إصلاح الإنسان والمجتمع البشري، ذاتاً: مفاهيم وقيماً، وأخلاقاً وتربية، الهدف الأساس لكل عملية الإصلاح في الإسلام، ولذلك توجّهت الآيات الكريمة في مجمل القرآن الكريم إلى خطاب الفرد بنفسه، لكي يؤمن ويتوب ويُصلح نفسه قبل الآخرين.. ومن ثمّ تتّجه إلى خطاب الجماعة المؤمنة للإصلاح، في نفسها وحالها، كي تصلح الآخرين.. ومن ثمّ تتّجه إلى مطالبة الناس جميعاً بالإصلاح لأنّ في ذلك فلاحهم ونجاتهم وبقاء النوع الإنساني واستمراره على الأرض، بدلاً من إفسادها وهلاكهم جميعاً نتيجة لسوء عمل البشر وفساد تدبيره.
يقول تعالى: (يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهتديتم...)(المائدة/ 105).
ويقول تعالى: (فمن آمَنَ وأصلحَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون) (الأنعام/ 48).
ويقول جلّ شأنه: (وإن تُصلحوا وتتقوا فإنّ الله كان غفوراً رحيما) (النِّساء/ 129).
ويقول: (إنّما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم تُرحمون) (الحُجرات/ 10).
ويقول جلّ شأنه: (ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خيرٌ لكم) (الأعراف/ 85).
ويقول: (وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) (هود/ 117).
ويقول الرسول الكريم(ص): "ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدّقته الأعمال" .
إذن، محور الإصلاح، كما يراه الإسلام، وكما يعرضه القرآن، يبدأ بالتربية وإصلاح الذات: من الإنسان، فأهله وذرِّيّته، ثمّ المجتمع، الأقرب فالأقرب، والأولى فالأولى، فلا يتناسى الإنسان المُصلح نفسه، فيكون من الذين ذمّهم الله تعالى بقوله: (يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كَبُر مَقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف/ 2-3).
ولا يغفل عن عائلته التي هو مسؤول عنها، قال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَاراً وَقُودُها النّاسُ والحِجَارَةُ...) (التحريم/ 6).
ولا ينسى وظيفته في المجتمع، كما يقول الرسول(ص): "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته" .
إنّ الإنسان يتأثّر بالمحيط الذي يعيش فيه، وتتألّف معالم شخصيّته الأولى في البيت الذي يتربّى فيه، فإذا كان الخير والصلاح يعمّه، والعدل والإحسان يسوده، والخلق والسماحة تشيع فيه.. نشأ الإنسان متعادلاً ومتوازناً وشبّ على حبّ الخير والصلاح واتّسم بحُسن الأخلاق.. وهكذا تكون أجيال متعاقبة من الصالحين، بعضهم من بعض، والأسرة هي نواة المجتمع، ومن مجموع الأسر الصالحة يكون المجتمع الصالح.
قال تعالى: (جنّاتُ عَدنٍ يدخلونها ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذُرِّيّاتهم...) (الرَّعد/ 23).
ولابدّ من ملاحظة مسألة مهمّة وهي أنّ كثيراً من الأخلاق الفاسدة في الحكم والإدارة والتعامل مع الناس تبتدئ جذورها من التربية البيتيّة، فالبيت الذي يقوم على الإستبداد والسلطة المطلقة، وتكون العلاقات فيه مبنيّة على الخوف والقهر من الأب أو الأُم.. هذا البيت نموذج مصغّر للحكومة المستبدّة التي فيها قاهر ومقهورون، وظالم ومظلومون، وحيث تُفتقد فيها الحرِّيات والرأي الآخر.. سيكون الولد الذي يخرج من هذا البيت أحد إثنين: إمّا شخص مهزوم الشخصية، منكسر الذات، يعاني الكبت والحرمان.. وإمّا آخر يبحث عن التعويض عمّا لاقاه وعمّا افتقده من خلال ممارسة نفس السلوك مع الآخرين.. مع أهله وولده وأفراد مجتمعه، وقليل مَن يكونون متعادلين راشدين.
إنّ هذا البيت لا ينسجم مع ما وصفه الله للأسرة، وبالشكل الذي يريده، فهو مُنافٍ لقوله تعالى: (ومِن آياتِهِ أن خلق لكم مِن أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون) (الرُّوم/ 21).
ولا ينسجم أيضاً مع سنّة الرسول(ص) الذي يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" .
وقوله(ص): "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يغفر لكم" .
وتتكامل حلقات التربية في البيت مع نظيراتها في المجتمع: المدرسة والجامعة، والمحيط الإجتماعي، في الشوارع ودوائر الدولة، والمجالس العامّة، وغيرها، وهذه بدورها تؤثِّر في تشكيل الشخصية الخارجية للفرد وسلوكه الإجتماعي العام، ولذلك يجب العمل على أن يكون التعامل في كل هذه المجالات قائماً على أساس إحترام الإنسان وإكرامه، كما أراد الله تعالى، الذي قال: (ولقد كَرَّمنا بني آدم وحَمَلناهم في البرِّ والبحرِ ورزقناهم من الطيِّبات وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خَلَقنا تفضيلاً) (الإسراء/ 70).
ومن ثمّ إحترام حقوقه ومساعدته للنهوض بواجباته، على أساس القانون الذي يحمي الجميع ويُحاسبهم بمعيار واحد.
وينبغي أن يكون في كل المراحل منهج تربية يُوفِّر للإنسان فرص التعبير عن رأيه مع إحترام الرأي الآخر وتنمية روح النقد البنّاء مع نيّة صالحة تهدف إلى إصلاح الأوضاع والنهوض بها، فالممارسات الحُرّة تحتاج إلى تدريب وتأهيل عليها منذ الصغر حتى ينعم بها الأفراد بصورة معتدلة بعيداً عن التطرُّف والغلو الذي ينتجه عادة الكبت أو الإنفلات غير الملتزم.
والهدف الأساسي لمنهج التربية في الإسلام يقوم على أساس الوصول بالفرد إلى الرُّشد، وهو المستوى الذي يستطيع فيه الإنسان أن يختار ما يُصلح دينه ودنياه.
والرُّشد هدف عام يسعى الإسلام لإيصال المجتمع بصورة عامّة إليه، حتى يتمّ إختياره لطريقه في الحياة، إختياراً واعياً وعاقلاً، قال تعالى: (لا إكراهَ في الدين قد تبيَّن الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ...) (البقرة/ 256).
ومن ثمّ يأتي العمل على إشاعة الأخلاق الصالحة التي تحفظ للمجتمع جماله وكماله وحلاوته وطراوته ليعيش الجميع متحابّين متوادّين، يتّقون الله في معاملاتهم ويتصالحون ويصلحون فيما بينهم، كما أمر الله بقوله: (فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (الأنفال/ 1)، وكما أوصى الرسول الكريم.. فقد روي عنه(ص) أنّه قال لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن: "يا معاذ، علِّمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة".
وبذلك نعرف أن الإصلاح التربوي هو الأساس لكل إصلاح، ومنهج الإصلاح في ذلك ينبغي أن يكون على نمطين، حددّهما القرآن نفسه وأكّدتها السيرة النبويّة.. قال تعالى: (هو الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهُم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مُبين) (الجمعة/ 2).
النمط الأوّل: التعليم، ويشمل تعليم كتاب الله وما فيه من هدى وبيان وأحكام، حتى تتّضح للإنسان معالم دينه وحدود الله المرسومة لسلوكه، فيقف عندها ولا يتعدّاها، وفي ذلك يقول الإمام علي: (أفضل الأدب أن يقف الإنسان عند حدّه ولا يتعدّى قدره).
النمط الثاني: التزكية، بما يتضمّن هذا العنوان من تدريب النفس على تجنّب الهوى وإتباع الشيطان وترفعها عمّا يحطّ من قدرها ويمسّ كرامتها، من سوء الفعال وإرتكاب المعاصي والآثام.
وفي المقابل، تحلية النفس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وبما يصلحها ويدنيها من شيم الصالحين وأخلاق الطيِّبين، من الأنبياء والرُّسُل، وعباد الله المقرّبين، مَن حكى الله سبحانه وتعالى سيرتهم وشاع في الناس علوّ درجاتهم، على الخصوص خاتم النبيِّين محمّد(ص) وأهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
قال تعالى: (أولئك الذين آتَيناهم الكتاب والحُكمَ والنبوّة فإن يكفُر بها هؤلاء فقد وَكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبِهُداهم اقتَدِه...) (الأنعام/ 89-90).
وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول اللهِ أُسوَةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخرَ وذكر الله كثيراً) (الأحزاب/ 21).
وقال تعالى: (... إنّما يُريدُ اللهُ ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهل البيتِ ويُطهِّرَكُم تَطهيراً) (الأحزاب/ 33).
وقال تعالى: (والسابقونَ الأوّلونَ من المهاجرين والأنصارِ والذين اتَّبعوهُم بإحسانٍ رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنهُ وأعَدَّ لهم جنّاتٍ تجري تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً ذلك الفوزُ العظيم) (التوبة/ 100).
والإصلاح في كل نواحي المجتمع يجب أن ينطلق من محور إصلاح الإنسان، الذي يقود الحياة ويُدير الأعمال ويُوجِّهها. وبمقدار ما يتمّ التغيير ويفلح الإصلاح في الإنسان الفرد، في ذاته ونفسه، في أفكاره وقيمه، في سلوكه ومناهج عمله.. تتم عملية التغيير في المجتمع كلّه وتتقدّم عملية الإصلاح، يقول تعالى: (إنّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتّى يغيِّروا ما بأنفسهم) (الرَّعد/ 11).
وهذا قانون إلهي وسنّة إجتماعية ثابتة اعترف بها علماء الإجتماع وتابعهم في ذلك علماء السياسة، حتى أنّهم لا يرون تقدّم المجتمع وتطوّر مفاهيمه وتغيّر واقعه في مجال الإصلاح السياسي إلاّ بالعمل على تربية الإنسان وترقية أفكاره منذ الصغر، وأن تكون مفاهيم إحترام الرأي الآخر وتقبّل التعددية والديمقراطية ممارسة ثقافية وتربوية في البيت والمدرسة، ينشأ عليها الطفل ويشبّ عليها بدلاً من الإستبداد والتسلّط وإستخدام القوّة، وغيرها من المفاهيم الفاسدة الحاكمة والسارية في المجتمعات القمعية والدكتاتورية.
والقرآن الكريم يتحدّث عن إصلاح الذرِّية.. كما ورد على شكل الدُّعاء: دعاء أبي الأنبياء (وأصلح لي في ذرِّيتي) (الأحقاف/ 15)، ولكنّه ليس مجرّد أُمنية أو دعوة عابرة، بل هو طلب من الله تعالى لتوفيقه لإصلاح ذُرِّيته: إنّها رغبة وإرادة وإستعانة بالله وإستهداء به لتربية الأولاد وتنشئتهم النشأة الصالحة ليكونوا بناة ورعاة للمجتمع الصالح.. إنّها دعوة كما تقول: (إيّاك نَعبدُ وإيّاكَ نستعين * اهدِنا الصِّراط المُستقيم * صراط الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضّالِّين) (الفاتحة/ 5-7).
إنّها دعوة عزم وتصميم وإرادة وعمل للسير على منهج ربّاني صالح، اختاره الله لعباده المقرّبين (مع الذين أنعمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رَفيقاً) (النِّساء/ 69).
وكذلك تأتي دعوة أخرى: (وأدخِلني برحمتك في عبادك الصالحين) (النمل/ 19)، فإنّها تتم وتتحقق بالعمل، لا مجرد التمنّي، لذلك يقول تعالى: (وقُل اعمَلوا فَسيَرى اللهُ عَمَلكم ورسولهُ والمؤمنونَ وستُرَدُّونَ إلى عالمِ الغَيبِ والشهادةِ فيُنَبِّئُكُم بما كنتم تعملون) (التوبة/ 105).
ويتعرّض القرآن، إستمراراً لمنهجه في إصلاح التربية، إلى موضوع التعامل مع اليتامى، والذين يلقون إهتماماً خاصاً في الإسلام لتعويضهم عمّا افتقدوه من رعاية الأب، أو الوالدين، وقد أكّد على حُسن معاملتهم ورعايتهم مادّياً ومعنوياً في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: (واعبُدُوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجارِ الجُنُب والصاحبِ بالجَنب وابنِ السبيل وما مَلَكَت أيمانُكم إنّ الله لا يُحبُّ مَن كان مُختالاً فخورا) (النِّساء/ 36).
وقوله تعالى: (فأمّا اليَتيم فلا تَقهَر * وأمّا السائل فلا تَنهَر * وأمّا بنعمة ربّك فحدِّث) (الضُّحى/ 9-11).
وإستمراراً لهذا النهج، يؤكِّد الإسلام على حُسن التعامل معهم بما يُصلح حالهم وينفعهم في مستقبلهم، فيقول تعالى: (ويسألونكَ عن اليَتَامى قُل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تُخالطوهم فإخوانُكُم واللهُ يَعلَمُ المفسِدَ مِنَ المُصلِحِ ولو شاءَ اللهُ لأعْنَتَكُم إنّ الله عزيزٌ حكيم) (البقرة/ 220).
وهو نهج عام للتعامل مع عموم الأولاد، إذ إنّ (العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب)، كما يقول الأُصوليون، فالوالد يُسمّى ربّ الأسرة، لأنّه المسؤول والمعني بتربيتها وتوجيهها ليكون الأولاد صالحين، يستطيعون شق طريقهم في الحياة والنهوض بمسؤولياتهم الفردية والإجتماعية، بما يسعدهم في الدارين، بتوفيق الله وهدايته.
وهكذا نتوصّل إلى أنّ الإصلاح في الجانب التربوي، أساس كل صلاح، به يتقوم بناء الإنسان ليسلك طريق الخير والفلاح.
*المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire